زمن الفن الجميلعالم الفن

الشاعر الكبير/صلاح فايز يروى ذكرياته عن : ” كوتش الاذاعة ” كما لقبه (محمد حسن الشجاعى)

احجز مساحتك الاعلانية

متابعة : نور جيهان صلاح 
محمد الموجى … كمال الطويل … عبد العظيم محمد … بليغ حمدى … فؤاد حلمى … على مهدى … عبد المنعم السباعى … اسماعيل الحبروك … صلاح جاهين … الأبنودى … شهرزاد … فايزة أحمد … نجاة … أحلام … وطابور طويل من فنانى زمن جميل أطلوا بإبداعاتهم تأليفاً وتلحيناً وغناء من خلال ميكروفون الاذاعة المصرية فى خمسينيات القرن الماضى وما بعدها فأمتعوا وأشبعوا وتوهجوا وتوجوا نجوماً تتلألأ فى سماء الموسيقى والغناء المصرى فى أزهى حالاته وفى أبهى حلله .. وهنا يكمن السؤال ضمن أسئلة كثيرة منها لماذا ومن كان السبب الرئيسى فى إعطاء أصحاب كل هذه المواهب وغيرهم الفرصة الحقيقية لتعرفها وتقترب منها جماهير المستمعين فى الوطن العربى بأكمله .. ومن كان صاحب الفكر الثاقب والفهم العميق والوعى الخلاق فى إثراء المكتبة الغنائية بالإذاعة بأجمل وأروع الكلمات والألحان والأصوات .. إنه مكتشف المواهب عملاق وكوتش الاذاعة وأهم من تولى شئون الغناء بها على طول تاريخها .. الرجل حديدى القرارات حريرى الاحساسات والمتذوق الموسيقى العالى إنه باختصار غير مخل ( محمد حسن الشجاعى ) ..
فى إحدى الامسيات من شتاء عام 1960 وبحديقة معهد الموسيقى بادرنى المرحوم الملحن الفنان فؤاد حلمى
قائلاً ( إنت يا ابنى رحت الاذاعة ولا لسه )
فلما أجبته بالنفى اتفق معى على موعد الذهاب سوياً لمقابلة هذا الهرم القابع بمكتبه الكائن بشارع الشريفين فى المبنى القديم للاذاعة آنذاك .. فى اليوم المحدد استأذنت مبكراً من عملى بالقوات المسلحة وكنت أرتدى الزى الرسمى وأضع فوق كتفاى نجوم ثلاثة أى أننى كنت برتبة النقيب ولم يكن لدى متسعاً من الوقت لاستبدال ملابسى الميرى بملابس مدنية أو ملكية حسبما كان التعريف الدارج .. وذهبنا فؤاد حلمى وأنا وطرق فؤاد على باب المكتب وسمعت من الداخل صوتاً قوياً مميزاً يقول أدخل فدخلنا من الباب إلى حجرة المكتب وعندما وقع بصرى عليه للمرة الأولى تخيلته أحد جنرالات الجيش السوفيتى العظام أبطال الحرب العالمية الثانية أمثال زوكوف ، تيموشنكو بجسده الضخم وبوجهه الصارم .. وسرت فى جسدى رعشة سريعة عندما بادرنى قائلاً عندما قدمنى له فؤاد حلمى
( إنت اسمك إيه !! وجاى لابس رسمى ليه !! ) فاعتذرت له فى وجل وتردد وهنا احس الشجاعى بحرجى فتبسط معى وقال لى ( فؤاد .. يقصد فؤاد حلمى بيقول إنك مؤلف أغانى كويس وعملت أغانى لمحمد فوزى وغيره .. معاك حاجة أشوفها !! )
وهنا كنت قد استرددت ما كان قد فلت منى من رباطة جأش وأطمأننت له وأخرجت من جيبى أغنيتان أحدهما بعنوان ( أعاتبه ليه ) والاخرى بعنوان ( يللى الزمان غيرك ) وقدمتهما له فى تردد أحسب ألف حساب لرد فعله المعروف عنه عندما لايقتنع بما يعرض عليه من كلمات أو ألحان أو أصوات وهل سيلقى بها فى وجهى قائلاً ( ماتورنيش وشك تانى !! مثلاً ) أم سيكون أكثر لطفاً ويقول لى ( يا ابنى هاتلنا حاجة أحسن من كده ولكننى فوجئت به يخاطبنى قائلاً ( إنت عملى فيها حسين السيد !! ) وتجرأت وقلت له ( أنا فين يا افندم والاستاذ حسين السيد فين !! ) فاستطرد قائلاً ( أنا مش قصدى فى قيمته .. أنا رأيى فى الاسهاب اللى انت كاتب بيه الأغانى ) ثم واصل قراءة الاغنية الأولى وبعد أن انتهى منها أمسك بقلمه وشطب بعض الشطرات ، صعد شطرات أخرى من كوبليه محل تلك التى شطبها واختصر الأغنية فى مذهب وكوبليهين بعد أن كانت ثلاثة كوبليهات طويلة غير المذهب ثم أشر على الأغنية وهو يسمعنى ما كتبه على النص ( حلمى أمين ، مصطفى فتحى )
ثم فعل بالاغنية الثانية ما فعله بالأولى وفى تلك اللحظات دخل المرحوم الفنان والمطرب ( جلال حرب ) وبعد أن حياه وجلس قال له ( خد يا جلال لحن الأغنية دى .. يقصد يللى الزمان غيرك .. لعيشة حسن ) وسلمه نص الأغنية للإطلاع عليها قبل نسخها وقال له ( الضابط ده هو المؤلف ) فحييته مبتسماً لم أصدق أذناى وأحسست بمزيج عجيب من الفرحة والدهشة والتقدير والاحترام والاعجاب بهذا العملاق الذى كنت من لحظات قليلة أخشاه واعمل مليون حساب لمقابلته .. فى دقائق معدودات حدد مصيرى كشاعر غنائى اتعامل مع الاذاعة ، التى كانت حلماً بعيداً لكثير من اصحاب المواهب الحقيقية واشباهها .. طرت فرحاً وخرجت من مكتبه ولم ينسى قبل استئذانى أن يقول لى ( انت عندك موهبة .. مالهاش دعوة بالبدلة الرسمى .. ماتجيش هنا تانى بيها ) ولقد كان فلم يحدث بعد ذلك اطلاقاً ان ذهبت الاذاعة مرتدياً ملابسى الرسمية لأى سبب من الاسباب
كان حلمى أمين وهو ابن عم الموسيقار الكبير محمد الموجى قد وفد إلى القاهرة قادماً من الاسكندرية يتحسس فيها اول خطواته التلحينية من خلال الاذاعة ووضع لحناً جميلاً على مقاس صوت مصطفى فتحى والذى كان يعمل ببنك مصر فى ذلك الوقت ومن عائلة ثرية ذات أصول عريقة .. وتم تسجيل الأغنية والذى حضرته فى مبنى ماركونى بشارع علوى وبعد التسجيل والاجازة ذهبت لأستلم أجرى عن أول أغنية لى بالاذاعة وكان للمبتدئين على شاكلتى عبارة عن خمسة جنيهات مخصوماً منها دمغات وخلافه ليصبح المبلغ أربعة جنيهات وثمانية وسبعون قرشاً على ما اتذكر ، لكن المبلغ كان يساوى عندى الاف الجنيهات التى احصل عليها الآن وزيادة .. ثم تم تسجيل اللحن الثانى وصرفت استحقاقى لها من مؤلفات غنائية .. عهد إلى الشجاعى ضمن شعراء الاغنية المعروفين من جيل اساتذتى ومن زملائى النابهين الواعدين بتكليفات كثيرة لكتابة أغانى للمناسبات الوطنية المختلفة ، كما قدمت أغانى كثيرة اخرى من مختارات الاذاعة كان من اهمها ( يا اولاد بلدنا يوم الخميس ) ، ( أكتر تلاتة بحبهم ) ، ( خفة دمك مش على حد ) وغيرها .. كنت بحكم حداثة سنى وتجربتى وعلاقتى بالاستاذ الشجاعى لا أتردد عليه كثيراً للزيارة ولكنه لم ينسى ابداً أن يعهد إلى بتكليف من حين لآخر لكتابة أغنية جديدة فى كافة المناسبات ، حتى أصبحت نجماً جديداً يتلألأ بين نجوم الشعر الغنائى ، وفى زمن قياسى ، اقتناعاً منه وايماناً بموهبة العبدلله التى اكتشفها فى مقابلتى الاولى له فى مكتبه ووضعنى فى مصاف اولاد دفعتى البارزين أمثال (على مهدى ، عبد الوهاب محمد ومن بعدهم عبد السلام أمين ، الأبنودى)
مات الشجاعى فجأة فمات معه الأمل فى استمرار المد الغنائى الغزير والمتميز وغاب عن الشريفين صاحب البصمة الأصلية والواضحة والقرار الجرئ والتوجيه الصائب ..
مات الشجاعى ولكنه سيظل اسماً خالداً ورمز ناصع البياض لطهارة النفس واليد وصفاء القلب والحب لكل من تعامل معه من أهل الفن وعاصره وخبره عن قرب ..
الشجاعى رجلاً عشق الموسيقى فعشقته واعطته اعتزازها به وعرفانها له بالجميل ..
ترك الشجاعى بيننا نحن من عاصرناه ذكريات وأمنيات وأغنيات ستظل تفخر بها الاذاعة المصرية والموسيقى العربية ..
رحم الله محمد حسن الشجاعى كوتش الاذاعة وقائد فريقها العبقرة من الشعراء والملحنين والموسيقيين والمطربين رحمة واسعة وأثابه فى جنات الخلد عن كل ما وضعه فى سبيل النهضة الموسيقية والحفاظ على تراثنا الغنائى

12342849_750822945050829_5744353384955085762_n

رئيس التحرير

المشرف العام على موقع العالم الحر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى